بركات التقوى

محمود طافش الشقيرات

    الحمد لله، الذي أبان لعباده في قرآنه صراطاً مستقيماً، ومنهجاً تربوياً قويماً. والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وسيد المتقين، الذي بعث مؤدباً ومربياً، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.

       وبعد؛ فما من مرة قرأت فيها كتاب الله العزيز الحكيم، إلا وتوقفت طويلاً.. مبهوراً متفكراً، عند قوله – جل وعلا – ] ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [،(1) وعند قوله جل شأنه: ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [ (2) وقوله  –عز من قائل- :  ] ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً [.(3) وكنت في كل وقفة أتساءل: أي فضل يسمو فوق هذا الفضل؟ وأي منزلة تسمو فوق هذه المنزلة؟ وماذا يريد العبد من ربه أكثر من أن يبسط عليه من خيراته وبركاته، وهو القائل في كتابه العزيز: ] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [.(4) فأي كرم يفوق هذا الكرم؟ وأي خير أعم وأشمل من هذا الخير؟ بركات من السماء.. ورزق كريم من الأرض.

       ماذا يريد العبد من ربه أكثر من أن يفيض عليه من نوره العظيم، فيدرك به الحق حقاً، ويبصر به الصواب صواباً؟ ويميّز به بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين ما يجب فعله، وما ينبغي تركه. يقول ربي – وهو العليم الخبير -: ] يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [(5). وليس هذا فحسب، بل ] ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم [(6). فهل بعد هذا الفضل من فضل؟..

    والمتقون هم أولياء الله وأحباؤه يرعاهم برعايته، ويحفظهم بحفظه.. أوليس هو القائل: ] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [.(7) فمن هم أولياء الله؟ من هم هؤلاء الذين آمنهم من خوف وأذهب عنهم الحزن؟ إنهم الذين ] آمنوا وكانوا يتقون [(8). إنه دائماً معهم ينصرهم على أعدائهم ،وييسّر لهم أسباب النجاح، ويجنّبهم أسباب الزلل.] إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون [.(9) وهو إضافة إلى كل ذلك، يجنّبهم –بتقواهم همزات الشياطين، ويثبت أفئدتهم على الصراط المستقيم، وينير لهم معالم الطريق، ] إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون[.(10) وبعد هذا كله، ماذا يبقى للمتقين؟ إن ] لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم [.(11) ثم يقرّبهم إليه ليكرمهم أحسن تكريم، ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم [.(12)

       وكنت أحسب أنّ الفوز بهذه المنزلة الرفيعة، أمر هيّن ليّن، مباح ومتاح، لكل من يصبو إليها مثلي؛ فالمسألة لا تتطلب أكثر من القيام بشيء واحد هو تقوى الله. وبدأت أجدّ وأكدّ، وكنت في كل مسعى أكلّ وأملّ، ويغلبني التعب، حتى تأكد لديّ بما لا يدع مجالا للشك، بأن التقوى مرتبة سامية غالية، عزيزة المنال، يتبوؤها الأنبياء والصديقون والشهداء، ونخبة مختارة من المؤمنين.. درجة عالية رفيعة، طريقها وعرة، ومشوارها طويل، أمر يتطلب جداً وجهداً وصبرا، إسلام فإيمان فعمل دائب دائم بما يرضي الله، وحذر متواصل مما يغضب الله السميع العليم.

       وتمعّنت في حالي وفي مآلي، وتذكرت ذنوبي وأخطائي، فوجدت بأنني دون القدرة على الخوض السليم في هذا المضمار؛ فالهدف غالٍ وعزيز، يتطلب عزما وصبراً، وأموراً أخرى عديدة، لا أراها متوفرة لدي. فتراجعت وأجلّت البحث في هذا الموضوع الشائق الشائك أكثر من مرة، وبين كل مرة وأخرى شهور طويلة. وكنت أعلم بأن كثرة ذنوبي وإسرافي في أمري، وشدة تعلقي بدنياي، هي التي تحول بيني وبين ما أرنو إليه.

       وكنت وما زلت، أجاهد نفسي مستعيناً بالله، ومسترشداً بهديه -جل شأنه- لأخلص نفسي مما هي مولعة به، فلعلي أستطيع مواصلة المسيرة.

       فيا الله… إني أعلم أن هذه الحال عزيزة غالية، وأنّ قطوفها عالية،.. وأنت أعلم بضعفي وتقصيري وكثر ذنوبي.. غير أني عظيم الشوق لقربك، شديد الطمع في كرمك، فيسّرها لي، وأعنّي على بلوغها، ومتّعني بحلاوتها.. إنك قريب سميع مجيب الدعاء.. يا رب العالمين.