مرحبا بكم في موقع المشرف التربوي محمود طافش الشقيرات .
 
New Page 3
 Free counters!
 
ما رأيك بالمظهر الجديد للموقع ؟
1. ممتاز
2. مقبول
3. جيد
4. جيد جدا
مجموع الردود: 22
    

لمسات كاريكاتورية 

في شعر  ابن الرومي

 

محمود طافش الشقيرات

 

     من منا - أبناء الضاد - لم يقرأ له ، ذلك الشاعر العربي الكبير  علي بن العباس ، ذلك العبقري الذي قضى في بغداد سحابة القرن الهجري الثالث ، فكان فيها ركنا منيعا من أركان الأدب العربي  شعره ونثره .. عاش فيها حياة كلها نصب ، رثى فأشجى ، ومدح فأعلى ، ثم هجا فأهلك وأردى .

     توالت عليه بنات الدهر فأهلكته ، ماتت أم عياله ، ثم مات أخوه وفلذات كبده ، كلهم ماتوا واحدا اثر واحد .. كانت حياته سلسلة من النكبات تتوالى ، فأورثته عللا وأمراضا وأوهاما .. ورغم ذلك ظل ينبوع عبقريته يتدفق ، شهدا حينا  وحنظلا أحيانا  حتى انتهى شريط حياته .

     ولد الشاعر في صبيحة اليوم الثاني من رجب سنة 220هـ في حي من أحياء مدينة السلام ، ازاء قصر مولاه عيسى بن جعفر المنصور . توفي والده وهو رطب العود ، فكفلته أمه حسنة بنت عبد الله السجزي ، يعاونها على تربيته أخ كان له بمثابة الأب الذي لم يره .

     كان الصبي  وسيم الطلعة  جميلا  أمرد  فاحم الشعر  صافي الأديم  كأنما فيه ائتلاف ، يسرح ويمرح  بين أهل يحبهم ويحبونه ، أم وأخ وخالة ، وكان غياب الأب قد ترك في نفسه فراغا جعله أكثر تعلقا بهذه الأسرة الصغيرة  التي  ما لبثت المنية أن تخطفت افرادها واحدا اثر واحد .

    لاحظت أسرة الصبي اهتمامه بالأدب  وميله إلى الشعر ، فاخذت بيده  وشجعته  ودفعته لينهل من معين الأدب ما طاب له ، فأحاط بأصول الشعر  وبعلوم عصره ،  وما لبث أن نيغ  فلمع اسمه  وذاع صيته ، فاتصل به الأمراء والوزراء ، فمدحهم ونال عطاياهم ، فتحسنت حاله ، وأصبح شاعرا عظيما  يشار إليه بالبنان .

     كان ابن الرومي الشاب ، شأنه شأن معظم أهل الفكر والقلم ، رقيق المزاج ، دقيق الاحساس ، شديد التعلق بالمتع ، والولع بالملذات ، فاندفع وراءها اندفاعا ليس له حدود .

    ولم يطل به الحال ، فدفع ثمن اندفاعه الأرعن عللا وسقما .. لم يرع الرجل شبابه فضاع منه ... ولم يحفظ ثروته فطارت من بين يديه .

     وكأن باب منزله قد انفتح لبنات الدهر على مصراعيه ، فماتت خالته ، ثم أمه ، ثم اخوه ، فبكاهم بكاء مرا .. توالت الاحزان عليه ، وفقد أعوانه على الحياة ، فأحس ضعفا وضياعا ، فشكى وبكى ، غير أن سخطه لم ينفعه ، بل كأنه استعدى عليه المنون ، فتخطفت زوجته أم عياله ، ثم أبناءه واحدا في  إثر واحد ، فجائع متتالية  ألهبت إحساسه ، فجادت قريحته برثاء غزير مميز ، أورثه نقمة انتجت لوعة وسخرية لاذعة .. كان ناقما على نفسه  وعلى الناس ؛  إذا هجا  استنفد كل احقاده .. كانت نقمته كالعاصفة تشتد رويدا رويدا  حتى تقتلع المهجو من جذوره  فلا يصلح لشيء بعدها أبدا .

     وشاخ الشاعر بسرعة ، تطاير شعر غرته ، ووخط الشيب ذؤابتيه وفروته واحدودب ظهره ، وفقد إحدى عينيه ، وأعشت الثانية ، فهو أصلع أحدب أعور ، أهمل لحيته ، فأمست كثة ، يضيق بها وجهه المعروق .. ما هذه الحالة ؟ فقد أحبة  وفقر  وهزال  وصلع  وعوار  وإعشاء  وغربلة في مشيته  وبشاعة في شكله .. من يحتمل كل هذا ؟

     اختلت اعصاب الرجل ، وفقد أصدقاءه ، وأصبح ضيق الخلق ، سريع الغضب ، يثور ويطلق لسانه في الناس لأتفه الأسباب .

     انطوى الشاعر على نفسه ، وأصبح شديد التشاؤم والتطير . وقد ذكروا عنه ، ونسجوا حوله حكايات غريبة.

     وكان الشاعر يتشاءم من رؤية أحدب كان يلازم الجلوس بباب داره ، فكان إذا أراد الخروج  نظر أولا من ثقب الباب ، فإن هو أبصر الاحدب في مكانه  خلع ثيابه ، وعاد إلى فراشه .

     وقد وصف جاره الأحدب أبدع وصف وأدقه ، مستخدما حسا فنيا وهبه الله له ، طابعا صوره بلمسات كاريكاتورية غاية في الروعة . فقال :

قصرت اخادعه وغاب قذاله             فكأنما متربص أن يصفعا

وكأنمــا صفعــت قفاه مرة              وأحس ثـانيـة لها فتجمعا

 

     وانتهى به المطاف إلى حالة يرثى لها ، فأصبح اسمه مضغة على الألسن ، وأضحى شكله موضوعا للغمز واللمز، وانطوى على نفسه ، ولزم بيته لا يخرج منه ، وحوله صبية جياع لا يملك لهم شيئا إلا ما قد يجود به الجيران عليه .

     أجمع النقاد على أن ابن الرومي  كان أكبر هجاء عرفه العصر العباسي ، وكان هجاؤه يتميز بطابع خاص هو مسخ المهجو ، إذ يعمد إلى تناول أعضائه عضوا عضوا ، وتشويهها بأسلوب لم يسبقه إليه أحد ، فهو أول شاعر مساخ سجله الشعر العربي ... كان هجاؤه مذلا مهلكا . ولقد درست كل ذلك فوجدت له أسبابا اذكر منها :

1- نكباته المتتالية ، فقد كان الشاعر رجلا سويا وسيما وميسورا . لكن .. إن كان قد سره زمن فقد ساءته أزمان ، والحق إنني ما عرفت شاعرا قط ابتلي بمثل ما أبتلي به ابن الرومي .. وأول ما فقد ، فقد أباه ، وإن كان لم يشهد موت أبيه ، إلا أنه .. كان لذلك  اثر بالغ على نفسية الطفل . فقد نشأ يتيما ، واليتم ضعف ، كفلته أمه ، فكانت له أما وأبا ، غمرته بحبها وحنانها ، ويسرت له أسباب العلم والثقافة . وفجأة فقد هذه الأم  بعد أن كان قد فقد أختها ، فحزن على أمه حزنا شديدا ، وبكى عليها بكاء مرا ، فقد تركت في نفسه فراغا هائلا ...كانت امرأة صالحة مؤمنة ، تكثر من أعمال البر والتقوى ، لذلك كان جزعه عليها عظيما :

 

أقـــول وقــد قالوا : أتبكي كفاقد                 رضاعا وأين الكهل من راضع الحلم

هي الأم ، يا للناس جرعت فقدها               ومــن يبــك أمـا لم تذم قط ، لا يذم

 

   ولم تكد تخف حدة حزنه على أمه حتى تناولت المنية أخاه محمدا .. ذلك الأخ الذي كان له بمثابة الوالد الذي لم يره ، وهكذا تجددت أحزانه ، فأحس بوهن .. أحس وكأنه لن يستطيع تكملة مشوار الحياة . وبأن نهايته قد قربت.

وتسليني الأيام لا أن لوعتي                      ولا حزني كالشيء ينسى فيعذب

ولكن كفاني مسليـا ومعزيـا                      بـأن المــدى بيني وبينــك يقرب

 

     وتلحق بهما زوجته ، ويبكيها ، غير أن البكاء لم يعد يكفيه  فقال :

 

عينيّ سحا ولا تشحا  جلّ مصابي عن البكاء

 

             ولطمة أخرى .. يموت أحب أولاده إليه ، يموت محمد ...فرثاه بقوله :

 

بكاؤكما يشـفي وإن كان لا يجـدي              فجــودا فقد أودى نظيركما عنـدي

ألا قــاتـــل الله المنــايــا ورميها                 من القوم حبات القلوب على عمد

تــوخى حمام الموت أواسط صبيتي            فـلله كيــف أختـــار واسطة العقد

محمد مــا شــيء تــوهـــم سلوة                لقلــبي ألا زاد قلـــبي مـــن الوجد

 

     ويموت ابنه الثالث ... ويعيل صبره ، ولم يعد يجد له عزاء :

 

أبنيَّ إنـــك والعــزاء معــا                        بـــالأمــس لف عليكما كفن

ما في النهار وإن فقدتك من                      أنــس ولا فـي الليل لي سكن

 

     ويتأمل الشاعر نفسه  وقد فقد كل أهله ، فيجد نفسه بُدّل بالجمال قبحا ، وبالأمن خوفا .. معذور هو إذن إن انطلقت كل كلمة على لسانه سبة ، ويتأمل المرآة ، وأول ما يهجو يهجو نفسه .. يقول :

 

من كان يبكي الشـباب من جـزع                فلست أبكي عليه من جزع

فــــإن وجهــي بقبــح صورتـه                   مازال بي كالمشيب والصلع

أشب مــا كنــت قـط أهرم مـا                      كنـت فسبحان خالق البدع

 

2- شعوره بالظلم :

     كان الشاعر يعتقد بأن دهره لم ينصفه ، وإنه لم يتبوأ المكانة التي تليق به ، وإن كثيرين ممن هم دونه كفاءة أعلى منه منزلة ... في عهده كان نفوذ الاتراك عظيما ، وكانت المقادير تجري بسرعة مذهلة ، ترفع أناسا وتطيح بآخرين .. كان ينظر إلى ذوي الاملاك والنفوذ نظرة لا تخلو من حسد .. كان يعتقد أنه أحق من كل هؤلاء بالنعيم ، لكن الزمان لم ينصفه .

     كان الرجل يتفجر ثورة على الطغاة والمرتشين ، وكان ينتقد تلك الفوضى بأعلى صوته ، ولكن  لا حياة لمن تنادي .. كان يتميز غيظا عندما يرى من هم دونه قد بلغوا الآمال التي لم يحقق هو منها شيئاً :

 

أتراني دون الأولي بلغوا                          الآمال من شرطة ومن كتّاب

وتجار مثل البهائم فازوا                          بـالمنى في النفوس والأحباب

 

3- ضعف النزعة الدينية لديه :

     زعم بعض الدارسين أن ابن الرومي كان شاعرا متدينا واستدلوا على ذلك بتشيعه وبأبيات قالها في مدح آل الرسول عليه الصلاة والسلام .. ولا أدري كيف يكون متدينا من شطر شعره سخرية مرة من خلق الله - الذي نهى عن السخرية نهيا أكيدا - فعصاه ابن الرومي فسخر وهجا ، ولا أدري كيف يكون متدينا من يتعرض لحرمة الصيام .

     الحقيقة ، أنني لم أر شاعرا من قبل ابن الرومي ولا من بعده أمعن في إبراز مظاهر القبح وتضخيمها كما فعل شاعرنا ، فالرجل لم يترك جزءا من جسم الانسان إلا تناوله بكثير أو قليل من الشتم والسخرية ، من فروة الرأس حتى أخمص القدمين . وقد ركز بصورة خاصة على أربعة مواضع هي : الوجه والقفا واللحية والصلعة . وقد بلغ سيل سخريته من الشدة بحيث شمل بعض من سبق وشملهم بمدحه ، حتى نفسه لم تسلم من أذاه ، واسمعه يتحدث عن وجهه :

 

إذا أخــذت المــرآة سلتني               وجهي ، - وما مت - هول مطلعي

شغفت بالحزد الحسان وما             يصلــح وجهــــي إلا لــذي ورع

كي يعبد الله في الفلاة ولا                يشهــد فيـــه مساجــــد الجمــع

 

       وفي معرض حديثه عن الفم ، أغلب ما صب جام غضبه على المغنين ، ولعل سبب ذلك يكمن في أن الفم هو موضع الانتباه لدى المغنية . يقول واصفا فم جارية تغني :

 

لها فم مثل اتساع الدرب                 بقباته كبقبات الجب

 

    ولعل الشاعر تعمد اختيار كلمة بقباته رغم حروفها المتنافرة ، وذلك ليصور لنا مدى بشاعة اندفاع الموجات الصوتية من فمها ، فلم يجد أبلغ من هذه اللفظة التي يتضمن معناها صورة الانتفاخ وخروج الغازات .

       ويتعرض كذلك ، لفم أبي سليمان المغني ، فيصوره تصويرا لا يقل تشنيعا عن الوصف السابق ، ولأبي سليمان في ديوان ابن الرومي أكثر من ذكر ، وها هو يتحدث عن فكيه فيقول :

وتحسب العين فكيه إذا اختلفا                   عند التنغم بغل طحان

وفي الفم الأسنان :

بعض أسنـانــه يكادم بعضا             فهي مسنـونـــة بغير سنــون

لا دؤوي إلا دؤوب رحاها               أو دؤوب الرحى التي للمنون

 

   ولعل الشاعر يكثر من ذكر الوجوه لأن الوجوه خبايا النفوس لكن ما باله يكثر من ذكر القفا ؟ :

مستقبل منه ومستدبر                   وجه بخيل وقفا منهزم

 

        و بعد أن نلاحظ ورود الكلمة متكررة في حديث خاص جدا عن أبي حفص ، نمسك بالقلم عن ذكره ، وبعد أن نستعيد بالاذهان ما أتهم به الرجل من شذوذ ، يقوى عندنا الشك بأن لهذا الأمر دلالة خاصة عنده . أو لعل مرد ذلك إلى ولوع الشاعر بالمقابلات اللغوية فقط .

       وانظر كيف يحدثنا الشاعر عن صلعة أبي حفص الوداق مصورا لمعانيها ورنين الأكف على سطحها بأسلوب حي يجعل من العسير عليك أن تنس هذه الصورة :

 

يـا صلعــة لأبـي حفص ممردة                   كـأن صفحتها مرآة فولاذ

ترن تحت الأكف الواقعات بها                   حتى ترن بها اكناف بغداد

 

       ونكتفي في هذه العجالة بعرض هذه النماذج من الصور الفنية الساخرة ذات الدلالات العميقة ، وديوان الشاعر حافل بأمثالها .

 
 

Untitled 4

دخول المدراء تم إنشاء التصميم في نظام uCoz