مرحبا بكم في موقع المشرف التربوي محمود طافش الشقيرات .
 
New Page 3
 Free counters!
 
ما رأيك بالمظهر الجديد للموقع ؟
1. ممتاز
2. مقبول
3. جيد
4. جيد جدا
مجموع الردود: 22
    

ابن الفارض .... هل كان شاعرا متصوفا ؟

محمود طافش الشقيرات

نشر في جريدة الخليج يوم16/11/1984م

  كان الشيخ مستلقيا على ظهره , مسجى كالميت , شاخصا ببصره ,لا يسمع من يكلمه ولا يراه ، ومريدوه من حوله يهللون ويكبرون ، وفجأة ينتفض جسمه ويصرخ مرددا اسم الله , ثم يهدأ ويفتح عينيه قليلا وقد تصبب جبينه عرقا ، ثم يسرح ببصره وهو يردد بصوت واهن وكأنه يخاطب نفسه :

سقتني حميا الحب راحة مقلتي       وكأسي محيا من عن الحسن جلتِ

  ويتبادل من حوله النظرات ، وكأني بالشاعر لا يطيق الافصاح عما بنفسه فيغيب عن الوعي من جديد ، وعندما يفيق يومئ بوجهه ذات اليمين , ويهمس ودموع الفرح تنساب من مقلتيه :

يشاهدها فكري بطرف تخيلي     ويسمعها فكرى بمسمع فطنتي

ويحضرها للنفس وهمي تصورا   فيحسبها في الحس وهي نديمتي

فأعجب من سكري بغير مدامة   وأطرب في سري ومني طربتي

  ذلك الشيخ هو ابن الفارض .. إنه ابو القاسم عمرو بن علي بن مرشد . ولد في مصر سنة 1181م . في عصر غلب فيه التكلف اللفظي على الأدب . كان والده رجلا ورعا , حموي الأصل , رحل الى مصر وأقام فيها عالما يشتغل  بتثبيت فروض النساء على الرجال ., لذلك لقب بالفارض , عرف شاعرنا بابن الفارض .

  سلك أبن الفارض طريق العارفين للبحث عن الحقيقة . فاختلى في جبل المقطم , وانقطع للذكر والعبادة وأمضى في سبيل ذلك زمنا , لكنه لم يتوصل إلى ما يريد , فأشار عليه شيخه أن يرحل إلى مكة , ففعل . وأقام فيها خمسة عشر سنة , قضاها في مجالسة العابدين . فنضجت شاعريته وأسلمت له القوافي قيادها فرجع إلى مصر , وكان للمتصوفين فيها آنذاك شأن عظيم ؛ تجلهم العامة ويستقبلون بالحفاوة والتكريم .

  تبوأ ابن الفارض بمصر مكانة اجتماعية رفيعة , فكان إذا حضر في مجلس يظهر على ذلك المجلس سكون وهيبة , وسكينة ووقار وكان جماعة من مشايخ الفقهاء والفقراء ( المتصوفة ) وأكابر الدولة من الأمراء والوزراء يحضرون مجلسه وهم في غاية من الأدب معه والتواضع له .

   وقد شهد له مؤرخوه بالتقوى والورع , وبطيب الأفعال والأقوال وبالترفع عن الدنيا وحكامها , غير أنه كان يعاني من توتر عصبي شديد يعتريه أثر جلسات التأمل المتلاحقة التي كان يلزم نفسه بها , والتي كانت تنتهي به أحيانا إلى أن يهيم على وجهه في الوديان وفي ذلك يقول :

وأبعدني عن أربعي بعد أربع    شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي

فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا     وبالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي

   وظل الشيخ يجاهد نفسه بالتقشف فكان يعتمد طريقة الأربعينات الصوفية في الصيام والعبادة والتأمل طمعا في المنح الإلهية حتى غدا علما من أعلام التصوف بإجماع كل من أرخ له .

   والصوفية التي اتخذها الشيخ " مجاهدة لتظهر القلوب من الادران والانفراد بذكر الله توصلا إلى الحصول على الإلهام , النوراني , أو الاتحاد بالحق الأعلى وفي خلال هذه المجاهدة تمر نفس الصوفي في تطورات شتى منها ما يدعى مقامات ومنها ما يدعى أحوالا ,أما المقامات فهي المسالك التي يتدرج فيها كالتوكل والرضا وغير ذلك , وأما الأحوال فهي ما يحل بالقلوب من صفاء الأذكار ومنها المحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والطمأنينة والمشاهدة واليقين ويعبر الصوفيون عن الأحوال بشعر تلمس من خلاله روعة الانجذاب ومن ذلك قول ابن الفارض : 

إلى أن بدا مني لعيني بارق    وبان سنا فجري وبانت وجنتي

هناك إلى ما أحجم العقل دونه   وصلت وبي مني اتصالي ووصلتي

وأاستار لبس الحسن لما كشفتها     وكانت لها أستار حكمي أرخت

رفعت حجاب النفس عنها بكشفي    النقاب وكانت عن سؤالي مجيبتي

  وللصوفيين أشارت ومصطلحات خاصة يرددونها كثيرا , ويتعذر على القارئ فهم اشعارهم على حقيقتها دون دراسة تلك الرموز وفهم معانيها فهما حقيقيا و ولن يفلح الباحث في أدبهم أن هو توقف عند ظواهر الألفاظ دون أن ينفذ إلى صميم دلالاتها .

 ويروي صاحب شذرات الذهب أن احد المتعالمين تعرض بالشرح لتائية ابن الفارض المعروفة " نظم السلوك " ثم إنه أرسل شرحه إلى أحد علماء الصوفية ليقرضه له وبعد انتظار طويل جاءه الرد مختصرا ببيت من الشعر يقول فيه الشيخ :

سارت مشرقة وسرت مغربا    شتان بين مشرق ومغرب

  فقيل له في ذلك , فقال : مولانا الشارح اعتنى بإرجاع الضمائر والمبتدأ والخبر والجناس والاستعارة , وما هنالك من اللغة والبديع ومراد الناظم وراء ذلك كله .

  وفي مثل هذا المعنى يقول ابن الفارض : 

يا أخت سعد من حبيبي جئتني    برسالة أديتها بتلطف

فسمعت ما لم تسمعي ونظرت ما    لم تنظري وعرفت ما لم تعرفي

إن زاد يوما يا حشاي تقطعي       كلفا به أو سار ياعين اذرفي

  وقد يصل الصوفي إلى حالة من التجريد ينسى فيها الدنيا بأسرها , ولا يذكر فيها إلا أنه في حضرة , الذات الإلهية , فتغمره آنذاك سعادة غامرة تتم عن صفاء منقطع النظير , وفي وصف هذه الحالة يقول ابن الفارض :

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا    سر أوراق من النسيم اذ سرى

وأباح طرفي نظــــرة أملتهـــــــا        فغدوت معروفا وكنت منكرا

فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عني مخبرا

وللمحبة عند الصوفيين عشر مراتب وقد تبوأ ابن الفارض منها المرتبة الرابعة وهي مرتبة الغرام , وفيها نظم أشعاره ومن ذلك قوله :

يا قلب أنت وعدتني في حبهم   صبرا فحاذر ان تضيق وتضجرا

إن الغرام هو الحياة فمت به     صبا فحقك ان تموت وتعذرا

قل للذين تقدموا قبلي ومن    بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى

عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا     وتحدثوا بصبابتي يوم الورى

  وقد يشطح الصوفي بعيدا بكلام غير مفهوم لنا لكننا نشعر أثناء قراءته بحرارة تنم عن معاناة حقيقة , يقول ابن الفارض :

فأتلو علوم العالمين بلفظة    وأجلو على العالمين بلحظة

واستعرض الآفاق نحوي بخطوة     واخترق السبع الطباق بخطوة

وما سار فوق الماء وطار في الهواء    أو اقتحم النيران إلا بهمتي

  والناس في نظرتهم إلى شعر ابن الفارض فريقان : أما الذين يأخذون بظواهر الألفاظ فيرون أن كلام الرجل لا يعدو كونه غزل شاعر مغرم تتبع مواطن الجمال عند نساء عصره وهؤلاء هم عامة الناس , وأما الدارسون وخاصة أولئك الذين أتيحت لهم الفرصة للاطلاع على بعض كرامات هؤلاء الأولياء فإن لهم رأيا يختلف , وفي ذلك يقول قائلهم :

 علم التصوف علم ليس يعرفه        إلا أخو فطنة في الحق معروف

وليس يعرفه من ليس يشهد          وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف

 

Untitled 4

دخول المدراء تم إنشاء التصميم في نظام uCoz